اعلموا يا إخواني المسلمين وفقنا الله وإياكم أنّ مثل المؤمن كمثل المدينة في الدنيا وروحه وجوارحه كالحصن لملك المدينة، والإيمان في قلبه كالملك في قصره، وللملك سـرير وهو التوحيد.
وله تاج، وهو: المحبة.
وله وزير، وهو: العقل.
وله صاحب،وهو: العلـم.
وله صاحب السرّ، وهو: الذّكـر.
وله نديم، وهو: الزّهــد.
وله عَلم، وهو: الأنس.
وله سـراج، وهو: الحلم.
وله بـوّاب، وهو: المـراقبة.
وله صاحب بريد، وهو: الفــراسة.
وله صاحب سيف، وهو: الحقّ.
وله صاحب منادم، وهو: الإقرار.
وله جنود ينصرونــــه.
وله معاشرون لا يخـالفونه.
فبينما هو متفكر في قصره، ثابت على نهيه وأمره، إذ أقبل عليه بعض جماعته المشفقين على مملكته، فقالوا: أيها الملك الكريم، إنّ الشيطان الرجيم قد توجّه إليك في جيش عظيم فاحترز على مدينتك، واستعد لمملكتك، فإنه عدو واصل، وعن قصرك غير ناكل وفي اقليمك لاشكّ نازل. فلما رأى الملك ذلك، نادى في جماعته وأهل النصح والمشورة من خاصّته، وأعاد عليهم الخطاب، وطلب منهم الرأي والجواب. ثمّ التفت للوزيـر وهو ذو العقل الخطير، وقال له بما تشير عليّ، فقال الوزيـر: أيـّها الملك الكريم: أرى أن تحفر حول مدينتك خندقـا من الزّهــد، فإنه يكيد عدونا ويردّه فقال الملك أحسنت الرأي، فأمر الملك في حفر الخندق بمعاول العقل فلما أحاط بالمدينة أنشأ الملك يقول شعرا:
فلمـّا أحاطت بي جميع وسـاوسي
حفرت بزهـد حول قلبي، خندقـــا
حفرنــاه في أرض التــّودّد والصـّفــا
وأرسـت دموع العين فيــه تروقـــا
وأخفيـت سـرّي واعتصمت بخالقي
وأصبحت من سدّ المهالك مطلقــا
وبينمـــا هو كذلك إذْ علا الغبراء باطل وأقبل العدو ما بين فارس وراجل، فنزل الهوى عن يمين المدينة، وضرب خيامه، ونشر أعلامه، وكان قوّاد جنوده، عشرة:
الحسد والتكـبر، والعُجب والتجبـّر، والغل والمكر، والحقد والغـدر، والوسوسة في السـر، والمخالفة في الأمر.
ونزلـت النفس شمال المدينة،و كان قـوّاد جنودها، عشرة:
الرّيــاء والتفـاخر، والبطر واللّهو، واللعب والزور، الكذب والغش، والخداع والتفريـط في الشّريعة.
ونزل ابليس لعنه الله وراء المدينة،و كان قُواد جنوده عشرة:
الظلم والخيانة، والكفر وترك الأمانة، البغض والنفاق، والشـك في قدرة الخالق، والمخالفة لما أمر به ذو الجلال والإكرام، والتغفل عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وحب الزينة والمال الحرام.
فهال الملك ما أبصر، وجزع من ذلك وتحيـّر وميـّز في أموره وتفكّـر، وأنشـأ يقول الشعر:
إني بُلــيت بأربـع مـا سُلـّـطوا
إلا لطول شقاوتي وعنائي
ابليس والدنيا ونفسي والهــوى
كيف الخلاص وكلهم أعدائي
ابليس يسلك بي طريق مهالكي
والنفس تأمرني بكل بــــلاء
وزخــــــارف الدنيا تــقول ألا ترى
فخري وحسن ملابسي وبهائي
وكذا الهوى حــاط بسور مدينـتي
يا عدتي في شـدتي ورخائــي
فلمـّا رأى وزيـره، وهو العقل قد جزع وتحيـّر، وقد هاله ذلك وتفكّر وأنشأ شعرا:
لا تجزعـنّ لما أبصـرت حـل بــــــنا
فحول بلدتنا الأمــلاك تحرسنـــا
فنحـن في حفظهـا من كل ناحيـــة
ونشـكر الله إذ للخير وفقنــــــا
ومذ عرفناه أصفينـا مـودتـــــــــــه
وكـان ينكرنــا من ليـس يعرفنــا
ثم إن الملك نادى: يا غياث المستغثين، ويا دليل الحائـرين فثبت الله قلبه وجنـانه، وقوّى ظهره وشـد أركانه.
ثم قال للوزيـر وهو العقل: كن أنت مقابل الهوى، اطلب النصر من الله العزيـز المولى، والآن قد سلمت يمين مدينتي إليك، واعتمدت في حفظها على الله ثم عليك، ثم ضمّ إليه جنوده عشرة، وهم:
الإخلاص والخشوع، واليقين والخضوع، والمعرفة والهداية، والورع والتقوى، والتسليم والرضــا.
ثم سـلم الجانب الثاني إلى صاحبه، وهو العلم، وقال له: كن أنت مقابل النفس، ثم ضم إليه من جنوده عشرة، وهم:
التيقظ والحكمة، وغض الطرف والقناعة، والشكر والإجابة، والتعفف والصبر والنصيحة، والاجتناب لكل فعل قبيح.
ثم سلم الجانب الثالث إلى صاحب السـر، وهو الذكر، وقال له:
كن أنت مقابل ابليس لعنه الله، ثم ضم إليه من جنوده عشرة، وهم:
الحيـاء والمحبـة، الأدب وحسن الصحبة، والتوكل وترك الجفاء، والتواضع والوفـاء، والإنابة والجـود.
ثم سلّم الجانب الرابع إلى نديمه، وهو الزهد, وقال كن أنت مقابل الدنيا، ثم ضمّ إليه من جنوده عشرة، وهم:
الطلب من الحلال والاجتناب عن الحرام، والافتقار إلى الله وترك الاعتراض على الله والثقة بالله تعالى وترك الزندقة، والندم والاستغناء، التهجد وقت الأسحار، والبكاء من خشية الملك الغفار.
ثم قال لهم: من خالف منكم أو قصـّر في الخدمة، فماله جواب عندي إلا سيف النقمة، ثم حفظ الملك باب المدينة، ولبس ثوب الجهاد وترك ثياب الزينة.