نحن قوم لا نعرف ولا نجيد إلا البكاء، نتوارثه جيلا بعد جيل بل نكاد نعيش دائما علي حافته، فان أحببنا بكينا، وإن فرحنا بكينا، شاهدنا في التليفزيون أو السينما مشهدا مؤثراً بكينا، احتلت أوطاننا وانتهكت مقدساتنا وقتل أطفالنا بكينا، وفيما نحن فيه من سوء حال ربما يبكينا الي درجة النحيب والنواح وكأننا نسعي لنيل شرف الموت بكاء، تماما مثل »جدتنا الخنساء« التي لزمت قبر أخيها صخر ترثيه وتبكيه حتي ماتت.
فما شهدته لجنة النقل والمواصلات بالبرلمان الأسبوع الماضي من سيولة كلامية وانتقادات حادة وإيماءات وغمز ولمز وسخط علي الحكومة من ناحية وصخب وسخونة ومناوشات وانتحاب علي ضحايا قطار القليوبية الشهداء الأبرار لم يكن إلا حالة من البكاء والعويل والنحيب ليس إلا صوراً مكررة سبق ان شاهدناها عند وقوع حادثة قطار الصعيد وغرق العبارة السلام 98 وكوارث وحوادث إرهابية أخري، لا أغالي إذا قلت انه مع وقوع كل كارثة مصيبة من هذه الكوارث والمصائب، أشعر وكأن هذه الفرصة الملائمة لكي يظهر السادة النواب لاسيما نواب الوطني قدراتهم ومهاراتهم الصوتية والحنجورية الساخنة والملتهبة، أظن أنه مع استمرار كل هذا الكم المتواصل والزائد عن حده من الكوارث والمصائب لم يعد بمقدورنا أن نصبر علي هذه السيولة البكائية البرلمانية، فلم يعد باستطاعتنا ان نصدق دموع البرلمان ونوابه، ولم نعد نتحمل الحلول الرمادية وصياغات النصف نصف وتمييع القضايا علي حساب زهق أرواحنا وأرواح أبنائنا وأهالينا وتعود ريما الي عادتها القديمة.
بعبارة واحدة وصريحة وقاطعة مانعة ومباشرة.. لابد ان يجيب علينا السادة النواب وفي مقدمتهم طبعا نواب الحزب الوطني الذين أسرفوا في النحيب والبكاء هل هم معنا أم علينا، إذا كانوا معنا فلماذا أسقطوا كل الاستجوابات وجددوا الثقة في هذه الحكومة وغيرها من الحكومات السابقة، فحريق قطار الصعيد أسقطوا استجوابه وتم الانتقال الي جدول الأعمال بالأغلبية الساحقة ولم يحاسب أي مسئول، بل المفارقة ان مقدم الاستجواب هو الذي في السجن الآن!.. واستجواب سقوط عمارة مدينة نصر الشهير سقط وتم الانتقال الي جدول الأعمال بأغلبية ساحقة ولم يحاسب أي مسئول ومقدم الاستجواب هو الذي في السجن!!
واستجواب كارثة انفلونزا الطيور سقط ولم يحاسب اي مسئول ولم يتم معرفة سبب دخول المرض إلي مصر حتي الآن وجاري البحث عنه، وأما استجواب كارثة العبارة فلم يناقش لانه مرتبط بتقرير لجنة تقصي الحقائق الذي ادان الحكومة والقوات المسلحة بشكل صريح بالأهمال والتقصير وسوء إدارة الأزمة فتم دفن التقرير في الأدراج ولم يناقش ولم يحاسب اي مسئول حتي الآن.
إن الذين يكتشفون الكذب.. عادة لا يقتنعون بحقيقة، ووحقيقة ما حدث في اجتماعات لجنة النقل والمواصلات يؤكد انه لا فائدة من نواب الحزب الوطني، فلقد أكدت مناقشات اللجنة أنهم مازالوا علي عشقهم ودفاعهم عن حكومة حزبهم حتي لو مات الشعب كله وأن استقالة رئيس الوزراء ليست ممكنة ولا مطروحة من أصله، فالحادث ما هو إلا قضاء وقدر، أو كما قال احدهم وهو النائب علي نصر: من لم يمت بالقطار.. مات في بيته.
أعتقد لو أن نواب الحزب الوطني هم نواب للشعب والوطن وضد الفساد، لما دافعوا عن حكومة وأخطاء »نزيف«، ولما تجاهلوا الاعترافات الصريحة التي وردت في تصريحات الدكتور عصام شرف وزير النقل السابق، والتي لا ينبغي لها ان تمر مرور الكرام بدون تحقيق أو مناقشة.
لقد قال الوزير شرف وبكل وضوح انه سبق وان حذر وزير النقل الحالي محمد منصور فور تسلمه وزارة النقل من خطورة بقاء حنفي عبدالقوي »الرئيس المخلوع لهيئة السكك الحديدية« في منصبه، وأخبره بأنه كان قد قرر إقالته بعد ان اكتشف ارتكابه تجاوزات وتلاعبات داخل الهيئة، ولكن الوقت لم يسعفه، إلا أن الأخطر والمثير في هذه التصريحات كان دهشته وتعجبه من ان الدكتور احمد نظيف أصدر قرارا بتثبيت عبدالقوي في منصبه رغم كل تحذيراته كاشفا عن أن رئيس هيئة السكك الحديدية المقال، كان علي علم بخروجه من منصبه الوزاري، وقام بإعلان ذلك علي العاملين قبل أن يعتمد الرئيس مبارك التشكيل الوزاري الأخير.
إذن ماذا يحتاج وينتظر نواب الوطني من أدلة أخري حتي يعودوا من تبعيتهم للحكومة وحماية ومساندة الدكتور »نزيف«، أليس هذا اعترافا كافيا للتوبة ويكفي للتأكيد علي أن نظيف لا يستحق الدفاع عنه طالما أنه متورط بدعم ومساندة رئيس هيئة السكة الحديد المقال رغم كل التحذيرات.
لا أعتقد انني متحامل علي النواب الشرفاء من الحزب الوطني أو مشكك في مصريتهم وصدق مشاعرهم الحزينة.. ولكن ما باليد حيلة، فغالبية نتائج كل تحقيق برلماني في كل كارثة من الكوارث السابقة لم تصل بنا الي نتيجة ويا أيها النواب التماسيح لن يخدعنا صراخكم ولا دموعكم وأولكم كمال الشاذلي.