من أين أشتري «براون» حبوب الشجاعة؟
لا أظنها تباع في نيويورك حيث مقر الأمم المتحدة، لابد أنه اشتراها من مكان آخر، لكن لا يهم الآن المكان.. المهم ماذا حدث له بعد تناولها وكيف استطاع أن يكشف عورات دول عظمي وصغري بتصريح صغير.
نسيت أن أذكر لكم أن «براون» هو نائب كوفي عنان، لكنني لن أنسي بالتأكيد ما قاله الرجل علي الملأ بعد فشل مجلس الأمن في إصدار قرار بإدانة إسرائيل بعد مذبحة قانا(٢) أو حتي إصدار قرار بالوقف الفوري لإطلاق النار، السيد براون قال موجهاً كلامه للولايات المتحدة وتابعتها بريطانيا بالبلدي كده: «اخرجوا منها وهي تعمر».
ولأن رئيسه كوفي عنان لم يتجرأ ويعلن مثل هذا التصريح خوفاً علي مقعده، ولأن الأمم المتحدة أصبحت مثل جامعة الدول العربية مجرد مبني بدون معني، حاول «براون» أن يذكر العالم بأن المبني لم يخل بعد من الرجال الذين يعرفون بالحق ولا يعرف الحق إلا بهم فقال قولته تلك، ولا أظنه أتي بجديد، فالكل يعلم منذ اللحظة الأولي لحرب إسرائيل علي لبنان أنها مجرد حرب بالوكالة حيث تقوم إسرائيل بدور نبوت الغفير الذي تمسكه الولايات المتحدة، لكن الغريب في تصريح براون هو رد فعل الولايات المتحدة، البيت الأبيض أصبح نهاره أسود، ووزارة الخارجية أطلقت التصريحات المضادة علي طريقة «اصحي يا روح امك شوف انت بتكلم مين.. دا احنا اللي بدعنا الأمم المتحدة واحنا اللي بنصرف عليها».
لا يسألني أحدكم - أرجوكم - عن رد فعل براون إزاء رد فعل الولايات المتحدة.. حرام ربنا أمر بالستر، وإذا كان الرجل قد تجرأ علي أسياد العالم بفعل حبوب الشجاعة فلا بد أنه يحمد ربه كثيراً لأن مفعولها لا يدوم أكثر من ربع ساعة كانت كافية لكي يعمل عملته ويعود إلي بيته قبل أن يقفشه أحدهم بتهمة الإرهاب، نعم فهذه هي أقل تهمة يمكن أن توجه إلي نائب الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة
، فهو لم يكتف بالتطاول علي الولايات المتحدة وبريطانيا العظمي «سابقاً» بل أتي بكلام من شأنه أن يشجع الإرهابيين اللبنانيين الذين ينتظرون من ينقذهم بقرار فوري لوقف إطلاق النار فلا يجدون إلا قوة عظمي غاشمة تنفخ في النار لتزيد أوارها وتكتم أنفاس كل من يتجرأ ويطلب هذا الطلب الغريب، فكيف يصدر مثل هذا القرار وجيش إسرائيل الذي لا يقهر مقهور علي عينه، ويضطر إلي استدعاء قوات الاحتياط بكروشهم المحترمة وصلعاتهم المميزة حتي ينقذوهم من عصابات حزب الله المفترية التي لا تُري بالعين المجردة!
نعم «براون» إرهابي لأنه بكلمات قليلة جداً دعا العالم أجمع إلي قراءة الفاتحة علي روح الأمم المتحدة قبل مواراتها التراب مع ضحايا قانا من الأطفال، وإن كان رأيي أن الفاتحة خسارة فيها لأن طوال عمرها كلامها وقراراتها لا تمشي إلا علينا، أما إسرائيل فمسموح لها بالضرب بقراراتها عرض الحائط دون أن يضعها أحد في قائمة الدول المارقة، فهذه القائمة محجوزة لمن يقولون لا لأمريكا. محجوزة لصدام حسين وأحمدي نجاد وبشار الأسد، أما بقية المدجنين فهم في قائمة الأصدقاء والحلفاء.
هكذا انتهي ما كان يسمي بالأمم المتحدة مثلما انتهي ما كان يسمي بجامعة الدول العربية مثلما انتهي ما كان يسمي بدول عدم الانحياز مثلما انتهي عصر جمال عبدالناصر، إنها مخلفات العالم القديم الذي انتهي عملياً علي يد جورباتشوف، لقد أنهي هذا الرجل علي الاتحاد السوفييتي فقضي في الوقت نفسه علي الميزان الذي كان يحكم العالم، وأعطي مفتاح الكرة الأرضية للولايات المتحدة فقررت إعادة ترتيبها وفقاً لنظرياتها ورؤاها هي، لا فرق عندها بين دولة وأخري إلا بمقدار الولاء والطاعة ومن ليس معنا فهو بالتأكيد ضدنا.
وتذهب إدارة أمريكية وتجيء أخري لكن المنهج ثابت وعملية تغيير الكوالين تسير علي قدم وساق، وفي سبيل ذلك تغيرات مفاهيم كثيرة كانت سائدة في العالم القديم وتم اختراع مسميات وتعبيرات جديدة أصبحت من سمات العالم الأمريكي، يكفي أن نعلم فقط أن مقاومة المحتل التي كانت تضفي علي من يمارسها شرفاً وأبهة وكرامة أصبحت الآن إرهاباً، وتستطيع أن تتخيل بعد ذلك كل ما يحدث وسيحدث في الأيام القادمة.
ما ساعد الولايات المتحدة علي ذلك ليس فقط سقوط الاتحاد السوفييتي، بل رحيل زعماء كانوا يوزنون بميزان الذهب.. رحل تيتو ونهرو وناصر.. رحل الذين كانوا يضعون مصلحة أوطانهم في مرتبة أعلي من مصالحهم الشخصية، أمريكا لم تكن تستطيع التعامل مع هذا الصنف من الزعماء.. هي تريد زعماء لهم نقاط ضعف تتعلق بعروشهم حتي تستطيع أن تنفذ إليهم وتتحكم في حركاتهم وسكناتهم.
لقد أسقط حسن نصر الله ورجاله ورقة التوت الأخيرة التي كانت الأنظمة العربية «تتدثر» بها.. ولأول مرة تري الشعوب العربية زعماءها كما ولدتهم أمهاتهم، لا أقول إنهم صدموا.. أبداً فما نحن بصدده ليس إلا نتائج لمقدمات كنا نراها ونمقتها لكننا كنا نمني أنفسنا بأنه عند ساعة الجد ستظهر معادن الرجال.. وعمر الدم ما يبقي مية.. وجاءت ساعة الجد وظهرت معادن الرجال وغرقنا في المية، فليتها ما جاءت وظللنا علي وهمنا الجميل، وليتها ما ظهرت وبقينا في حلمنا القديم.
ربما تنتهي الحرب في لبنان بانتصار حزب الله، لكنها لن تنتهي بهزيمة أمريكا، ففي العالم الجديد لا يحمل النصر ولا تحمل الهزيمة نفس المعاني التي كنا نعرفها في العالم القديم. أمريكا لن تيأس مع منطقة الشرق الأوسط لأنها انتهت من ثلثي العملية.. لقد بدأت بتفكيك المنطقة دولة دولة بحيث لا يتكلم أحد هنا عن لغة واحدة ودين واحد ومصير مشترك، وأخويا في عمان وخالتي في بغداد والمارد العربي.
كانت الضربة الأولي في المنطقة بتوريط مصر في معاهدة سلام مع العدو الصهيوني، وكانت الضربة الثانية إعادة العراق إلي العصر الجوراسي، ولم يتبق سوي ثلاثة أهداف: حزب الله وسوريا وإيران، وهنا لا يحسم المسألة قدرة ثلاثتهم علي الصمود كل علي حدة بل علي الوقت والسلاح والنفس الطويل، وعدونا للأسف ليس إسرائيل التي نستطيع هزيمتها وحدها إذا تمتعنا بروح وعقيدة حزب الله، لكن الثور الهائج الأعمي جورج بوش وإدارته اليمينية هما العدو الأكبر للإسلام أولاً وللعرب ثانياً.
< آخر كلام <
كلما سمعت تصريحاً من تصريحات السيد أحمد بوالغيط وزير خارجية مصر وكلما اكتحلت عيناي بقراءة حوار صحفي أو تليفزيوني لسيادته أعرف أن السفينة المصرية تسير في بحر هائج بدون بوصلة.. تفتكروا ينفع؟!
